كلمتان في الضحك على العقول

فهمي هويدي
لا أستغرب أن يحاول السيد صفوت الشريف أن يضحك علينا بكلمتين حول التسامح في مصر وحاضرها الزاهر ومستقبلها الواعد وقيادتها الفلتة التي لا يجود بمثلها الزمان، فتلك بضاعة الرجل التي لا ينفد معينها، ثم إنها بضاعة مجانية، لا تتطلب من صاحبها سوى حبك العبارات وتلوينها.

وهي الصنعة التي راجت سوقها في زمن العجز عن الفعل والاستقواء بالكلمات. إذ كما أن هناك ترزية قوانين، وترزية مقالات فهناك أيضا ترزية خطب تناسب كل مقام،

لا غرابة في كل ذلك، وإنما الغريب في الأمر أن يؤخذ مثل هذا الكلام على محمل الجد، والأشد غرابة أن يصدقه البعض.

خذ مثلا كلامه الأخير الذي أبرزته الصحف القومية على صدر صفحاتها الأولى يوم الجمعة الماضي (25 /12)، وقال فيه إن الحزب الوطني لا يسعى إلى الانفراد بالسلطة أو احتكارها، وإنما يرحب بدور أكبر للأحزاب الأخرى،


لم يكن ذلك كل ما قاله الأمين العام للحزب في اجتماع الأمانة العامة، لأن كلمته تضمنت أمورا أخرى تعلقت باستعدادات الحزب لانتخابات العام الجديد، ولكن هذا المعنى هو الذي أبرزته الصحف القومية،

ربما أملا في إقناع الناس بأن الحزب الوطني بريء من تهمة الانفراد بالسلطة واحتكارها، وأن استمرار الحزب في السلطة منذ 28 عاما ليس مصدره تلك الرغبة الشريرة، وإنما هو إصرار الناس على التمسك بالحزب والتعلق بأهدابه، وثقتهم في أن مصر لن تقوم لها قائمة إذا رفع يده عن السلطة،

وهو موقف لا يخلو من منطق عند قادته، إذ كما أن الرئيس لم يجد في بر مصر من يصلح لأن يكون نائبا له «واضطر» لترك الموقع شاغرا طوال تلك المدة، فإن الشعب المصري لم يجد في المحروسة حزبا غير الوطني جديرا بأن يتولى السلطة خلال المدة ذاتها، «فاضطر» بدوره لأن يضغط عليه ويجبره على تولي مقاليد البلد.

ولأنه حزب ديموقراطي أيضا فكان لابد أن يمتثل لأمر الشعب ورغباته!



المحزن فيما قاله السيد الشريف، انه افترض في الناس الغباء والبلاهة. ولا أعرف كيف أقنع نفسه بأنهم يمكن أن يصدقوا هذا الكلام، في حين أن أي مواطن عادي يعرف جيدا أن المعركة الوحيدة التي يخوضها الحزب الوطني بمنتهى القسوة والشراسة هي معركة تكريس الاحتكار من خلال الفوز بالأغلبية الساحقة في أي انتخابات تجرى في البلد، وأساليبه في ذلك معروفة، وهي تتراوح بين قمع المستقلين بكل وسائل الترهيب وبين التزوير والتلاعب في النتائج.



وفي هذا وذاك فالشرطة جاهزة للقيام بالواجب في خدمة الحزب. وميليشيات الأمن التي تضم جيش العاطلين وأصحاب السوابق تنتظر فقط الإشارة لتأديب المستغلين والمعارضين وأنصارهم.



إن المشكلة التي نواجهها في مصر الآن لم تعد تتمثل في احتكار الحزب الوطني للسلطة، الذي أصبح حقيقة واقعة يلمسها كل ذي عينين، وإنما هي في الإصرار على تأبيد ذلك الاحتكار من خلال وسيلتين،

الأولى هي الإصرار على تدمير عناصر العافية في المجتمع. حتى لا يلوح في الأفق أي بارقة أمل في إمكانية وجود بديل يمكن أن ينافس الحزب الوطني يوما ما.

تشهد بذلك القيود التي تكبل الأحزاب السياسية التي أصبح غاية المراد منها أن تتحول إلى أجنحة للحزب الوطني.

أحدث شاهد على ذلك هو تلك اللوثة التي أصابت الأجهزة الرسمية حين تردد اسم الدكتور محمد البرادعي كمرشح محتمل للرئاسة، واستهدفت تجريح الرجل وهدم صورته لمجرد أن اسمه اقترح كبديل، لأن المفروض على المجتمع ألا يكون هناك بديل عن مرشح الحزب الوطني.



الوسيلة الثانية لضمان الاحتكار تمثلت في اللعب بالقوانين والعبث في الدستور، لإضفاء شرعية على ممارسات السلطة، بحيث أصبح الاحتكار محميا بتشريعات مجرحة ومغشوشة ومن ثم فاقدة الشرعية. والنموذج الفادح لذلك هو المادة 76 من الدستور التي أغلقت الباب في وجه أي شخص من خارج الحزب الوطني يحاول الترشح لرئاسة الجمهورية.



كلام السيد صفوت الشريف الذي استدعى كل هذه المعاني يذكرني بعبارة أوردتها الروائية والشاعرة هوتا مولر الفائزة بجائزة نوبل للآداب هذا العام، في مقالة نشرتها لها صحيفة «لوموند دي ليفر» الفرنسية (في 4/12) وقالت فيها:

في الأنظمة الديكتاتورية تظل اللغة هي أبرز وسيلة لخداع الناس.

......................

من العار إلى الخجل

فهمي هويدي



من صفحة العار إلى صفحة الخجل والخزي. هذا قدرنا في الأسابيع الأخيرة. كأنما كُتب علينا أن نخرج من فضيحة لكي ندخل في أخرى،


فقد صدمنا الخبر الذي أفشته الصحافة الإسرائيلية حين سربت قصة جدار العار الذي كانت تجرى إقامته بعيدا عن الأعين لإحكام خنق غزة وإذلالها،

وفي حين لاتزال أصداء الصدمة تتردد في داخل مصر وخارجها. فإن وكالات الأنباء نقلت إلينا أخبار تحرك عدة مئات من الناشطين في أوروبا والولايات المتحدة. الذين قرروا أن يعبروا عن تضامنهم مع شعب غزة عبر محاولة كسر الحصار الذي يطوقهم، في ذكرى العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي انطلق في مثل هذا اليوم من العام الماضي (27 ديسمبر 2008).


تزامن الحدثان على نحو يعمق من شعورنا بالخزي والخجل. فهؤلاء الأوروبيون والأميركيون جاءوا من أقاصي الدنيا لكي يكسروا الحصار حول غزة، في الوقت الذي نقيم نحن فيه جدارا مدفونا من الصلب يحكم ذلك الحصار ويسد منافذه. وهي المفارقة المذهلة التي ما خطرت يوما ما على قلب بشر.



اليوم وغدا كان يفترض أن يقف على أبواب غزة موكبان لأولئك النفر من الناشطين الشرفاء، قافلة «شريان الحياة» التي دعا إلى تنظيمها النائب البريطاني جورج جالاوي، وضمت 420 ناشطا. خرجوا من لندن في الخامس من شهر ديسمبر الجاري مستهدفين كسر الحصار، ومصطحبين معهم 70 عربة محملة بالمعونات الطبية والغذائية.



اخترقت القافلة دول أوروبا وحطت رحالها في تركيا. التي استقبلوا فيها بحفاوة بالغة. وهناك أضافت إليهم الجمعيات الأهلية 70 عربة أخرى حملت بكميات أخرى من المساعدات. من تركيا مرورا ببلاد الشام حتى وصلوا إلى الأردن.

وفي الطريق كانت تضم إلى الموكب سيارات وشاحنات أخرى. وحين بلغوا ميناء العقبة كان موكبهم قد أصبح يضم 250 عربة مهيأة للانتقال إلى ميناء نويبع في الجانب المصري تمهيدا للانطلاق صوب رفح، حيث كان مخططا أن تصل الحملة إليه اليوم (المسافة بين الميناءين 70 كيلو مترا، تقطعها العبارات فيما بين ساعة وثلاث ساعات).



لكن مفاجأة كبرى كانت في انتظارهم حين وصلوا إلى العقبة، ذلك أن السلطات المصرية التي كانت قد أعلنت عن التصريح لهم بالدخول طلبت فجأة من المسؤولين عن الحملة أن يكون دخولها من ميناء العريش وليس ميناء نويبع.



هكذا بدلا من أن تعبر الحملة من العقبة إلى نويبع ثم تتجه بمحاذاة الحدود إلى رفح مباشرة، أو إلى العريش ثم رفح، فقد أصبح منظموها مطالبين بإحداث تغيير في مسارهم وتحمل معاناة وعذابات لا حدود لها للوصول إلى هدفهم، بعد أسبوع على الأقل من الموعد الذي حددوه.

فضلا عن التكلفة المالية الباهظة التي تتطلبها عملية شحن 250 سيارة محملة بالمعونات ومعها أكثر من 400 شخص، في بواخر تتجه جنوبا لتقطع كل خليج العقبة ثم تنعطف شمالا لتخترق خليج السويس. وتعبر بعد ذلك قناة السويس إلى بورسعيد على شاطئ البحر الأبيض، ومن بورسعيد تتجه شرقا إلى العريش ومنها إلى رفح. وهي مسافة تتجاوز ألف كيلو متر في البحر، لا تكاد تقارن بالسبعين كيلو مترا التي كان يتعين قطعها للانتقال من ميناء العقبة إلى نويبع.



ما لم يكن هناك تفسير معقول لهذا التصرف المفاجئ الذي يصعب افتراض البراءة فيه. فسيكون التفسير الوحيد هو أن مصر أرادت أن تعرقل العملية، وأنها إذا كانت قد وافقت رسميا على استقبال الحملة لأسباب إعلامية ودعائية، فإنها أرادت أن تجهضها من الناحية العملية.



وهو افتراض إذا صح فإنه يشكل فضيحة من العيار الثقيل. وإذا كانت السلطات المصرية قد لجأت إلى هذا الأسلوب لعرقلة قافلة «شريان الحياة» التي قادها جورج جالاوي، فلا أعرف كيف ستتصرف مع مسيرة «تحرير غزة» التي يفترض أن تضم نحو 1350 شخصا سيصلون إلى القاهرة اليوم من 42 دولة وينوون الذهاب في حافلات إلى رفح مع نهاية هذا الأسبوع،

علما بأن المسيرة تضم شخصيات لها وزنها في المجتمعات الغربية. وإذا استخدم معهم الأسلوب ذاته الذي اتبع مع حملة «شريان الحياة»، فإننا سنصبح بصدد موقف بائس لا يشرف مصر أو المصريين الذين يقف أغلبهم متفرجين وذاهلين عما يجري.



الغريب أننا نقدم على تصرفات من هذا القبيل ثم نتساءل بين الحين والآخر:

لماذا تغيرت مشاعر بعض العرب تجاهنا؟!

...................